الأخذ والترك في المجيء الثاني – دراسة كتابية ولاهوتية حول متّى 24:40/41
- مارونايت نيوز

- Oct 12
- 3 min read


الأخذ والترك في المجيء الثاني – دراسة كتابية ولاهوتية حول متّى ٢٤:٤٠-٤١
حينَئِذٍ يَكُونُ ٱثْنَانِ فِي ٱلْحَقْلِ، يُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلْآخَرُ.ٱثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ عَلَى ٱلرَّحَى، تُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ ٱلْأُخْرَى.
تقدّم هاتان الآيتان من إنجيل متّى صورة صافية عن لحظة مجيء الرب الثانية، حيث يُفرز المؤمنون الأمناء عن غيرهم في مشهدٍ يجمع البساطة اليومية والرهبة الأبدية.
في العهد الجديد، تتقاطع هذه الآية مع نصوص أخرى توضّح المجيء الثاني وتمييز الله بين المؤمنين وغير المؤمنين. في رسالة تسالونيكي الأولى (٤: ١٦-١٧):«لِأَنَّ ٱلرَّبَّ نَفْسَهُ سَيَنْزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلَائِكَةٍ وَبُوقِ ٱللَّهِ، وَٱلْأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلًا.ثُمَّ نَحْنُ ٱلْأَحْيَاءُ ٱلْبَاقِينَ سَنُخْتَطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي ٱلسُّحُبِ لِمُلَاقَاةِ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ ٱلرَّبِّ».هذا المشهد يُظهر التطابق بين "يُؤخذ" و"يُترك" في متّى وبين "الاختطاف" في تسالونيكي، حيث يُرفع المؤمنون لملاقاة الرب بينما يُترك الآخرون للدينونة.
وفي إنجيل لوقا (١٧: ٣٤-٣٥):«يَكُونُ ٱثْنَانِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ، فَيُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلْآخَرُ.تَكُونُ ٱثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ مَعًا، فَتُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ ٱلْأُخْرَى».لوقا يضيف بعدًا زمانيًا – الليل – ليؤكد أن المجيء المفاجئ يشمل الجميع في كل لحظة من الزمن.
وفي العهد القديم، نجد خلفية رمزية في نوح (تكوين ٧: ٢٣):«فَمَحَا ٱللهُ كُلَّ قَائِمٍ كَانَ عَلَى وَجْهِ ٱلْأَرْضِ...وَبَقِيَ نُوحٌ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ».
وكذلك في إشعياء (٢٦: ٢٠-٢١):«ٱدْخُلْ يَا شَعْبِي مَخَادِعَكَ، وَأَغْلِقْ أَبْوَابَكَ خَلْفَكَ.ٱخْتَبِئْ نَحْوَ لَحْظَةٍ حَتَّى يَعْبُرَ ٱلْغَضَبُ.لِأَنَّهُ هُوَذَا ٱلرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ لِيُعَاقِبَ إِثْمَ سُكَّانِ ٱلْأَرْضِ».هاتان الصورتان تُظهران منطق الله نفسه في التاريخ: حماية الأمناء وعزل الهالكين ساعة الغضب.
القديس يوحنا الذهبي الفم يشرح أن النصّ يُظهر الفصل الإلهي في لحظة واحدة بين الصالحين والأشرار، فهما في الحقل ذاته يعملان العمل نفسه، لكن القلب هو الذي يحدد المصير (Homiliae in Matthaeum، العظة ٧٧).
القديس جيروم يرى في الرحى رمزًا لحياة الإنسان اليومية، حيث يؤخذ من يطحن بمحبة الله ويترك من يطحن بدافع المنفعة (Commentarium in Matthaeum، ٢٤:٤٠).
القديس أغسطينوس يشرح أن "الأخذ" هو انتقال النفس إلى النور بالإيمان، وأن "الترك" هو البقاء في ظلمة الشك (De Civitate Dei، الكتاب ٢٠، الفصل ٢٠).
القديس كيرلس الإسكندري فيربط النص مباشرة بالقيامة كما في تسالونيكي الأولى، معتبرًا أن المؤمنين سيُرفعون إلى السحب لملاقاة الرب فيما تُترك الأرض للذين رفضوا النعمة (Commentary on Luke، العظة ١٣٣).
الكنيسة الكاثوليكية تفسر النصّ في سياق القيامة العامة والمجيء الثاني. فالأخذ هو الدخول في شركة المسيح الأبدية، والترك هو الحرمان من النعمة. ويُفهم البوق في تسالونيكي على أنه نفسه البوق العظيم في متّى ٢٤:٣١ (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، §§١٠٣٨–١٠٤١).
الكنيسة الأرثوذكسية ترى في النص حدثًا إسكاتولوجيًا عامًا لا علاقة له بالاختطاف السري، بل هو تمييز نهائي في يوم الرب العظيم، كما شرح القديس يوحنا الدمشقي في كتابه «الإيمان الأرثوذكسي» (الكتاب الرابع، الفصل ٢٧).
الكنائس الإنجيلية، خصوصًا التدبيرية منها، تفهم النص حرفيًا باعتباره وصفًا للاختطاف الذي يتم فيه رفع المؤمنين إلى السحب بينما يُترك غير المؤمنين على الأرض (John MacArthur, The Second Coming).
اللاهوتيون المعاصرون مثل N. T. Wright وCraig Keener فيرون أن النص يعكس فكرة الفرز الإلهي المتجذّرة في التقليد اليهودي. "الأخذ" لا يعني بالضرورة الصعود الجسدي، بل القبول في ملكوت الله، و"الترك" يعني الإقصاء عن العهد. يشير Wright إلى أن يسوع ربما كان يلمّح أيضًا إلى تمييز تاريخي حصل عند دمار أورشليم سنة ٧٠م (Jesus and the Victory of God، ص ٣٦٢). ويضيف Keener أن النص يُبرز أن المجيء الثاني سيطال جميع الناس في حياتهم العادية، وأن الدينونة ستقوم على الإيمان والضمير لا على المهنة أو المظهر (The Gospel of Matthew: A Socio-Rhetorical Commentary، ص ٥٩٤).
هكذا يتكامل إنجيل متّى مع رسالة تسالونيكي في رسم مشهدٍ واحدٍ بوجهين: فرز المؤمنين عن غير المؤمنين، ورفع الأبرار إلى مجد المسيح. فـ«يُؤْخَذُ» يعني الدخول في الحياة الأبدية، و«يُتْرَكُ» يعني البقاء في دينونة الهلاك.













Comments