المدرسة المارونية: حاضنة النهضة اللبنانية وبوابة الوعي الوطني
- Alfred Baroud الفرد بارود
- May 28
- 2 min read

مارونايت نيوز - المدرسة المارونية لم تكن جدرانًا من حجر، بل كانت ذاكرة من نار. من أعماق الجبل خرجت، لا لتحتمي من الاضطهاد فقط، بل لتُشعل في قلب الموارنة شغف الكلمة، وقداسة الحرف، وعناد الفكر. لم تنتظر دعم دولة، ولا ميزانية سلطان. صنعت من الصمت مدرسة، ومن الدير جامعة، ومن المحبسة مطبعة. في وقت كان الجهل سياسة مفروضة، كان الماروني يُنسخ الكتب على ضوء القنديل، ويحفظ السريانية غيبًا، ويُعلّم أبناءه الكتابة في زوايا الأديرة.
في دير مار أنطونيوس قزحيا، سنة 1610، دخلت أول مطبعة إلى الشرق، لا بالحرف العربي، بل بحرف الكرشوني، أي العربية بالسريانية. وكان أول كتاب طُبع فيها هو كتاب المزامير، ما جعل من هذا الإنجاز الماروني محطة أساسية في تاريخ النشر الثقافي والروحي في المنطقة. لم يكن الهدف فقط طباعة نصوص ليتورجية، بل تأصيل هوية روحية وثقافية في وجه السلطنة العثمانية التي حرمت الشعوب من التعبير بلغاتها.
وكانت هذه المبادرة امتدادًا طبيعيًا لمشروع سبقها، حين تأسست المدرسة المارونية في روما عام 1584، فخرج منها مفكّرون ومؤرّخون ولاهوتيون نشروا المعارف في كل المشرق. يوسف السمعاني، إسطفان الدويهي، وجرمانوس فرحات لم يكونوا رموزًا طائفية، بل أعمدة ثقافية حملت همّ المشرقية المسيحية والهوية السريانية، في وجه محاولات المسخ والذوبان.
ولأن المعرفة التي لا تنتشر تموت، انتقل الموارنة من نسخ المخطوطات إلى تطوير الصحافة. أولى الصحف العربية الحديثة في لبنان، من "حديقة الأخبار" إلى "الجنان"، خرجت من بيئات مارونية واعية، رافضة للظلم، ومؤمنة بلبنان الوطن لا الإقطاع. كان خليل الخوري أول من كتب “يا أمة العرب” في افتتاحية صحيفته، حالمًا بنهضة، لا فقط بقرّاء. والمدارس التي انتشرت في جبل لبنان، من عين ورقة إلى غزير، لم تُخرّج فقط رجال دين، بل نخبة مفكّرة، ساهمت لاحقًا في تأسيس مفهوم لبنان الكبير. وها هو البطريرك الياس الحويك، حفيد هذه المدرسة، يحمل فكرة الكيان المستقل إلى مؤتمر الصلح عام 1919، لا باسم طائفته، بل باسم جميع اللبنانيين، حالمًا بدولة حرة، سيدة، مستقلة.
ومن باب الأمانة التاريخية، لا بد من الإشارة إلى أن أول مطبعة استخدمت الحرف العربي الخالص كانت مطبعة دير مار يوحنا الخنشارة التابعة للرهبنة الباسيلية الشويرية، حيث طبع الراهب عبد الله الزاخر كتبه بدءًا من عام 1734. هذا الحدث لا يُنقص من سبق الموارنة في إدخال الطباعة إلى الشرق، بل يُظهر تكاملًا ثقافيًا مشرقيًا ساهم في نهضة لغوية شاملة في جبل لبنان، كان الموارنة من مؤسسيها الأوائل.
المارونية، إذًا، ليست طقسًا ولا نسبًا، بل مشروع ثقافي بنى لبنان من الكتاب قبل أن تبنيه السياسة من الحدود. من أراد أن يفهم لماذا انتشرت ثقافة لبنان قبل استقلاله، فليعد إلى المطبعة في قزحيا، وإلى الحرف السرياني الذي أنقذ الهوية من الضياع، وإلى المدرسة التي أنتجت فكرًا سابقًا لعصره، لا منغلقًا عليه.
المحامي الفرد بارود
المراجع المستعملة:
أنطوان الدويهي، نشأة الفكر اللبناني، دار النهار، بيروت، 1999
يوسف السمعاني، Bibliotheca Orientalis، المجلد الثالث، روما، 1725
الأب لويس شيخو اليسوعي، الصحافة العربية في لبنان، بيروت، 1924
جبرائيل يارد، المدرسة المارونية في روما: جسر بين الشرق والغرب، منشورات الجامعة اليسوعية، 1982
جورج طربيه، المطبعة في لبنان، بيروت، 1963
Comments