top of page

حين يعجز العقل ويُنير الإيمان: بطرس وبولس أمام سرّ الكلمة

ree
ree
«وَاحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلَاصًا، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ، كَمَا فِي الرِّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضًا، مُتَكَلِّمًا فِيهَا عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ، الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا الْغَيْرُ الْعَالِمِينَ وَالْغَيْرُ الثَّابِتِينَ، كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ.» (2 بطرس 3: 15–16)

المقابلة مع العهد الجديد

بولس كتب بحكمةٍ روحية تتجاوز المنطق، كما قال: «لَا يَقْدِرُ إِنْسَانٌ قَبِلَ رُوحَ اللهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا لِلرُّوحِ» (1 كورنثوس 2:14)،

لأنّ في المسيح «مَكْنُونٌ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ» (كولوسي 2:3).

لكنّ بعض الناس حرّفوا الكلمة كما حذّر بولس نفسه: «لأَنَّنَا لَسْنَا كَكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ» (2 كورنثوس 2:17).

أما طول أناة الربّ، التي تحدّث عنها بطرس، فقد عبّر عنها بولس أيضًا بقوله: «يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ الْجَمِيعُ وَيَخْلُصُوا» (1 تيموثاوس 2:4).


المقابلة مع العهد القديم

«مِنْ فَمِهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْفَهْمُ» (أمثال 2:6)، و«أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ» (إشعياء 55:8)،

تذكّران بأنّ الكلمة من الله لا تُقاس بعقل البشر. كما يحذّر سفر الأمثال من تحريف الوحي: «كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ نَقِيَّةٌ… لَا تَزِدْ عَلَى كَلِمَاتِهِ» (أمثال 30:5–6).

وأمّا طول أناة الله فمعبَّر عنها في المزامير: «الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ» (مزمور 103:8).


تفسير آباء الكنيسة

الذهبي الفم يرى أنّ صعوبة نصوص بولس نابعة من عمق أسرارها لا من غموضها، وأنّ من يقرأها بتكبّر يعثر فيها.

كيرلس الإسكندري يقول إنّ هذه النصوص لا تُفهَم إلا بنور الروح القدس، لأنها تتناول النعمة والحرية.

بطرس السدمنتي يشير إلى أن بولس كتب في أمور أخروية ولاهوتية عالية أسيء فهمها فتحوّلت إلى بدع.


تفسير الكنائس

الكاثوليكية تعتبر أنّ هذه الآية اعتراف بأنّ رسائل بولس جزء من الكتب المقدسة، ويجب تفسيرها في نور التقليد الكنسي.

الأرثوذكسية تراها تحذيرًا من الهرطقات الناتجة عن القراءة الفردية دون الروح الكنسي.

الإنجيلية تراها دعوة إلى الاعتماد على إرشاد الروح القدس الشخصي مع التواضع في الفهم.


تفسير الباحثين

يعتبر الباحثون أنّ هذه الآية دليل تاريخي على مكانة بولس في الكنيسة الأولى، إذ ساوى بطرس رسائله مع باقي الأسفار المقدسة. أما عبارة «أشياء عسرة الفهم» فهي تعبير عن عمق الفكر اللاهوتي البولسي الذي احتاج منذ البداية إلى تفسير جماعي.


تأمل روحي

لم يقل بطرس إنه لم يفهم بولس، بل أقرّ بأنّ في كلامه سرًّا يفوق المنطق. فالإيمان لا يُقاس بالعقل بل بنور الروح. الذين يسيرون في التواضع يُعطَون أن يفهموا ما تعجز العقول عن إدراكه، لأنّ المعرفة لا تُنال بالتحليل بل بالاتحاد بالمسيح.اليوم، في عالم يفسّر الكتاب بعقل جامد، تبقى الكلمة حيّة لمن يقرأها بروح الصلاة، لأنّ الله لا يُكتشَف في الجدل بل في الصمت الذي يُصغي إلى الحقّ.

فالقلب المقاد من الروح يعرف ويميّز بين روح الكلمة الثابتة في الكتاب المقدّس، لأنّ إلهًا واحدًا أوحى بها وتكلّم بها شخصيًا بأقنوم الابن الكلمة.الله ليس كائناً بين الكائنات، بل الخالق الأزلي الذي لا ظلّ له ولا تغيّر عنده، نورٌ مطلق لا يخضع لعصورٍ ولا ظروف. ولو كان يتبدّل بحسب الزمن، لما كان هو البداية والنهاية، ولا مالك الزمن ومعطيه. فهو المعرفة المطلقة والحقيقة التي لا تتناقض مع ذاتها، لذلك لا يمكن قبول أي تفسيرٍ يخرج عن روح الكلمة الثابتة في الكتاب المقدّس. لأنّ الكلمة الإلهية لا تتبدّل، إذ نطق بها من هو «هو هو أمس واليوم وإلى الأبد».

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page