إلى إخواننا السادة المطارنة الأجلّاء، وقدس الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات، وأبنائنا الكهنة والرهبان والراهبات المحترمين، وسائر أبناء كنيستنا المارونيّة وبناتها في لبنان والنطاق البطريركيّ وبلدان الإنتشار الأحبّاء، السلام والبركة الرسوليّة
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان (متى 4: 4)
1. بعد أن صام ربّنا يسوع في البريّة أربعين نهارًا وأربعين ليلًا، وجاع، دنا منه المجرّب وقال له: "إن كنت أنت ابن الله، فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا". فأجابه وقال: "مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله" (متى 4: 3-4).
2. بهذا الجواب يتّضح أنّ الإنسان بحاجة في آن إلى خبزين، لا يمكن الإستغناء عن أيّ منهما للعيش: الخبز الماديّ وخبز كلمة الله. الخبز الماديّ هو اليوم حاجة شعبنا الجائع، وغيره من شعوب الأرض، بسبب الأزمات السياسيّة والإقتصاديّة والمعيشيّة والماليّة، وبسبب الحروب والتهجير والتشريد وهدم البيوت، وبسبب عوامل الطبيعة كالزلزال الذي أصاب تركيا وسوريا. ولذا، زمن الصوم الكبير هو زمن خدمة المحبّة بالشكل المكثّف في البطريركيّة والأبرشيّات والرعايا والرهبانيّات والأديار والمؤسّسات الكنسيّة. وفيه تنظّم كاريتاس-لبنان حملتها السنويّة في الرعايا والمؤسّسات الكنسيّة والخاصّة والرسميّة، وعلى الطرقات العامّة، في جميع المناطق اللبنانيّة. إنّنا نحيّي شبيبة كاريتاس المتطوّعين، ونشكرهم على ما سيعانون من تعب الوقوف والحرّ والبرد. ونسأل الله أن يكافئهم على تعبهم. كذلك الصليب الأحمر اللبنانيّ ينظّم حملته السنويّة، بالتنسيق مع حملة رابطة كاريتاس بحيث تأتي متكاملة معها في الأزمنة. متجّنبة حصولها في الزمن الواحد.
3. إنّ زمن الصوم الكبير يضع كلّ واحد منّا في حالة الواجب على مساعدة إخوتنا وأخواتنا من باب العدالة والتضامن والمسؤوليّة. الصيام يتضمّن بحدّ ذاته الصدقة التي هي إشراك من هو في حاجة مّما نملك، أكان كثيرًا أم قليلًا". تقاسم خيرات الدنيا هو طريقنا إلى الله، وواجب نؤدّي الحساب عنه، أخلاصًا أبديًّا أم هلاكًا، كما يؤكّد الربّ يسوع في إنجيل الدينونة العامّة: "هلّموا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعّد لكم منذ إنشاء العالم، لأنّي جعت فأطعمتموني ... وابعدوا عنّي يا ملاعين إلى نار الأبد، لأنّي جعت فما أطعمتموني ... (راجع متى 25: 34-35). وكذلك في إنجيل الغنيّ ولعازر (لو 16: 19-32). يقول القدّيس باسيليوس الكبير "لا يحقّ لك أن تستعمل مالك كمتمتّع به على هواك، بل كموكَّل عليه"؛ والقديّس غريغوريوس النيصي: "ما يفيض عنك ليس لك، فلا تستطيع أن تجعل نفسك مالكًا". قاعدة الصيام هي أنّك ما تدّخره بصيامك تساعد به من هم في حاجة.
خبز كلام الله
4. الحاجة الثانية الضروريّة مع الأولى، بل تفوقها، هي "الجوع إلى كلّ كلمة تخرج من فم الله" (متى 4-4). يسوع، عندما صام عن الخبز الماديّ، كان يغتذي من كلام الله، من إرادة الآب حتى تماهى بالكليّة مع الكلمة، بل هو إيّاها، فأصبحت جسده في سرّ القربان. هذا ما أكّده للجموع بقوله: "أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنّ في البريّة وماتوا ... أنا هو الخبز الحيّ الذي نزلت من السماء، فمن يأكل من هذا الخبز يحيى إلى الأبد. والخبز الذي أعطيه أنا، هو جسدي الذي أعطيه لأجل حياة العالم" (يو 6: 48-51).
5. في عظة قداسة البابا فرنسيس، في أحد كلمة الله (22 كانون الثاني 2023)، تكلّم عن واجب السماع لكلمة الله، لأنّنا بسماعها نتوب ونبدّل مجرى حياتنا وتصرّفاتنا ووجهة نظرنا، ونقرأ أحداث الحياة على ضوء هذه الكلمة لئلّا نعيشها كمجرّد لغز.
يؤكّد قداسة البابا ثلاثًا:
أوّلًا، كلمة الله موجّهة للجميع 6. كان يسوع يجول في القرى والمدن ويعلن كلمة الله. كان في حركة دائمة، وفي كلّ منطقة ومكان. أعلن الكلمة للمؤمنين وغير المؤمنين، للخطأة وللوثنيّين، كلمته حبٌّ ورحمة وشفاء. ويريد أن يكون إعلان هذه الكلمة واجبًا أساسيًّا في حياة الجماعة الكنسيّة.
ثانيًا، كلمة الله تدعو إلى التوبة
7. إفتتح يسوع رسالته حالًا بعد صومه الأربعينيّ بهذه الدعوة: "توبوا، لقد اقترب ملكوت السماء" (متى 4: 17). فكلام الله مثل سيف ذي حدّين، كما نقرأ في الرسالة إلى العبرانيّين: "إنّ كلمة الله حيّة وفعّالة، وأمضى من سيف ذي حدّين، وهي تلج حتى مفرق النفس والروح، والمفاصل والمُخ والعظام، وتحكم على مقاصد القلب وأفكاره" (عب 4: 12). ما لم يضع كلّ واحد وواحدة منّا ذاته تحت مجهر كلمة الله، لن يستطيع أن يغيّر شيئًا في حياته ومسلكه ورأيه وعاداته وشوائبه وأخطائه.
ثالثًا، كلمة الله تجعلنا معلنين بشراها 8. بعد أن أعلن يسوع كلام الملكوت دعى تلاميذه الأول، واحدًا تلو الآخر. فكان أوّلهم سمعان وأخوه أندراوس. كانا صيّادي سمك، فمرّ بهما على الشاطئ وقال: "اتبعاني، أجعلكما صيّادي الناس" (متى 4: 19). فتبعاه وسلّمهم شبكة كلمة الله ومحبّته فاصطادا بها جميع الناس، فيما هما يبحران في بحر هذا العالم. من دون إعلان كلمة الله في كلّ مكان ولكّل شعب، لا تستطيع الكنيسة أن تبتغي الإيمان. فالإيمان من السماع، والسماع يقتضي مبشّرين، على ما يقول بولس الرسول (راجع روم 10: 14).
9. عندما صام يسوع أربعين نهارًا وأربعين ليلًا، كان في حالة صلاة. فالصيام يقتضي الصلاة، لكي ينفتح الإنسان على كلام الله ويصغي إليه بقلبه، ولكي تحيا فيه محبّة الفقراء فيمدّ لهم يد الصدقة. صوم وصلاة وصدقة هذا المثلّث يشكّل كيان الصوم الكبير. وهو كيان لا يقبل التجزئة. ما نعيش اليوم من أزمات سياسيّة تتسبّب بالأزمات الإقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والإجتماعيّة، إنّما مردّه فكفكة هذا المثلّث. فليعد كلّ واحد منّا من موقعه وواقعه ومسؤوليّته، ويبحث عن الخلل عنده في أركان هذا المثلّث.
توجيهات راعويّة أ- الصوم والقطاعة والاعفاء منهما 10. الصيامُ هو الإمتناع عن الطعام من نصف الليل حتى الظهر، مع إمكانيّة شربِ الماء فقط، من إثنين الرماد (20 شباط) حتى سبت النور (8 نيسان)، باستثناء الأعيادِ التالية: مار يوحنّا مارون (2 آذار)، الأربعون شهيدًا (9 آذار)، مار يوسف (19 آذار)، بشارة العذراء (25 آذار)؛ وشفيع الرعيّة؛ وباستثناء السبت والأحد من كل أسبوع، بحسبِ تعليمِ القوانينِ الرسوليّة (سنة 380). ففي السبتِ تذكارُ الخلق، وفي الأحد تذكار القيامة. تستثني هذه القوانينُ سبت النور " لأنّ اليومَ الذي كان فيه الخالقُ تحتَ الثرى، لا يحسنُ الإبتهاجُ والعيد، فالخالقُ يفوقُ جميعَ خلائقِه في الطبيعةِ والإكرام".
11. القطاعة هي الإمتناع عن أكلِ اللَّحمِ والبياضِ طيلة الأسبوع الأول من الصوم، وأسبوع الآلام، وفي كلِّ يومِ جمعة على مدار السنة، ما عدا الفترةَ الواقعةَ بين عيدَي الفصحِ والعنصرة، والميلاد والدنح، والأعياد الليتورجيّة الواجبة فيها المشاركة بالقدّاس الإلهيّ مثل: الميلاد، والغطاس، وتقدمة المسيح إلى الهيكل، ومار مارون، ومار يوسف، والصعود، والرسولين بطرس وبولس، وتجلّي الربّ، وانتقال العذراء إلى السماء، وارتفاع الصليب، وجميع القدّيسين، والحبل بلا دنس، وعيد شفيعِ الرعية.
12. يُعفى من الصَّوم والقطاعة على وجهٍ عامّ المرضى والعجزة الذين يَفرِض عليهم واقعهم الصِّحيّ تناول الطَّعام ليتقوَّوا وخصوصًا أولئك الذين يتناولون الأدوية المرتبطة بأمراضهم المزمنة والذين هم في أوضاعٍ صحِّيَّةٍ خاصَّةٍ ودقيقةٍ، بالإضافة إلى المرضى الذين يَخضَعُون للاستشفاء المؤقَّت أو الدَّوريّ. ومعلومٌ أنَّ الأولاد يَبدَأون الصَّوم في السَّنة التي تلي قربانتهم الأولى، مع اعتبار أوضاعهم في أيَّام الدِّراسة. هؤلاء المعفيُّون من شريعة الصَّوم والقطاعة مدعوُّون للاكتفاء بفطورٍ قليلٍ كافٍ لتناول الدَّواء، أو لمتابعة الدروس إذا كانوا تلامذةً وطلاباً. المعفيّون مدعوون للتعويض بأعمال خير ورحمة ومحبّة.
ب – القطاعات خارج زمن الصوم الكبير
13. تُمارس القطاعة خارج زمن الصوم الكبير بحسب العادة التقويّة، القديمةِ العهد، والمُحافظِ عليها في جميع الكنائس الشرقيّة، الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، استعدادا لأعياد محدّدة وحصرنا كل واحدة بأسبوع تسهيلاً للمؤمنين، وهي: قطاعة ميلاد الربِّ يسوع، من 16 إلى 24 كانون الأوّل، وقطاعة القدّيسين الرسولين بطرس وبولُس من 21 إلى 28 حزيران، وقطاعة انتقال السيّدةِ العذراء إلى السماء من 8 الى 14 آب.
ج - الصوم القربانيّ 14. هو الامتناع عن تناول الطعام ابتداءً من نصف الليل قبل المناولة أو على الأقلّ ساعة قبل بدء القدّاس، استعدادًا للإتحاد بالربّ بمناولة جسده ودمه.
الخاتمة 15. مع الكنيسة الجامعة نسير كنيسةً سينودسيّة بمرحلتها القاريّة في زمن الصوم الكبير، بقيادة قداسة البابا فرنسيس، ملتزمين ببناء الشركة، وهي الاتحاد العمودي مع الله، والوحدة الأفقيّة مع جميع الناس؛ وبالمشاركة في خيرات الأرض مع المحتاجين من إخوتنا وأخواتنا؛ وبالقيام برسالة إعلان كلمة الله، ورفع الصلاة الى الله من أجل السلام في أوطاننا، وبخاصة في بلدان الشرق الأوسط وفي لبنان. مع دوام صلاتي ومحبتي وبركتي الرسوليّة.
Comments