top of page
Writer's pictureمارونايت نيوز

عظة البطريرك الرَّاعي في قدّاس الشهداء في سيّدة إيليج




"لـِمَ أنتم خائفون هكذا؟ ولِـمَ ليس فيكم إيمان" ( مر 4: 4). 1. العاصفة العظيمة التي ضربت سفينة تلاميذ يسوع وهو معهم، هي عاصفة تتكرّر بشكلٍ آخر على أكثر من مستوى: على المستوى الشخصيّ عندما يمرّ الإنسان في مرحلة تغيير في مجرى حياته مثلما جرى لأغسطينوس؛ وعلى مستوى العائلة عندما تعصف الصعاب في الحياة الزوجيّة والعائليّة؛ وعلى مستوى المجتمع عندما تعكّره النزاعات والإنقسامات؛ وعلى مستوى الدولة عندما تتهاوى مؤسّساتها الدستوريّة ويقع ضحيّتها المواطنون الأبرياء؛ وعلى المستوى الدوليّ عندما تعصف ويلات الحروب والمجاعة والقتل والتدمير والتهجير. كلّ هذه العواصف تزرع الخوف في النفوس. لكنّ الربّ يسوع، الحاضر معنا ورفيق دروبنا يردد لنا ما قاله لتلاميذه، أعمدة الكنيسة: "لـِمَ أنتم خائفون هكذا؟ ولِـمَ ليس فيكم إيمان؟" ( مر ٤٠:٤)". 2. إنّنا بإيمان نلتقي اليوم في ظلّ سيّدة إيليج، وقرب ضرائح شهدائنا، شهداء المقاومة اللبنانيّة، بدعوة كريمة من رابطة سيّدة ايليج، لنقدّم هذه الذبيحة الإلهيّة ككل سنة، لراحة نفوسهم، ولشفاء الشهداء الأحياء الذين ما زالوا يحملون في أجسادهم علامة الشهادة والإستشهاد، ولعزاء أهاليهم، ولإستمراريّة شعلة المحبّة والإيمان بلبنان الوطن والرسالة في هذا المشرق وفي العالم. 3. كم من مرّة نسمع صوت الله في الإنجيل يردّد الدعوة لعدم الخوف: قالها على لسان الملاك لمريم: "لا تخافي" (لو 1: 30)، وليوسف في الحلم: "لا تخف" (متى 1: 2)، ولرعاة بيت لحم: "لا تخافوا" (لو 2: 10)، وليائيرس رئيس المجمع عندما بلغه خبر وفاة ابنته: "لا تخف. آمن فقط، وابنتك تحيا" (لو 9: 50)، ولسمعان-بطرس بعد صيد السمك العجيب والإقرار بأنّه خاطئ امام الرب؛ "لا تخف. فمن الآن تكون صيّاد الناس للحياة" (لو 5: 10). وبعد قيامة الربّ من الموت، ردّد في ظهوراته لرسله: "السلام معكم، لا تخافوا انا هو" (لو 24: 36)؛ وللمرأتين اللتين أتـيتـا باكرًا صباح الأحد لرؤية القبر قال الملاك: "لا تخافا! بل أسرعا وقولا لتلاميذه أنّه قام من الموت" (متى 28: 5)، وفيما هما مسرعتان بخوف وفرح لقيهما يسوع وقال لهما: "لا تخافا، بل إذهبا وقولا لإخوتي ليمضوا إلى الجليل وهناك يرونني" (متى 28: 10). 4. إنّ شهداء المقاومة اللبنانيّة الذين نذكرهم اليوم، واستشهدوا في سبيل لبنان فحفظوه وحموه من الزوال يقولون لنا اليوم في ظرفنا العصيب والشديد الخطورة: "لِـمَ أنتم خائفون هكذا؟ أين إيمانكم؟" ويدعون الجميع للتشدّد في الإيمان، ولتوحيد المقاومة اللبنانيّة حفاظًا على لبنان الواحد ولحمايته من أي تعدٍّ خارجيّ، ولبناء وحدة شعبه ومكوّناته المتعدّدة. لا تقتصر المقاومة اللبنانيّة على السلاح دفاعًا عن الوطن وشعبه، بل تشمل بنوع خاصالصمود في الوحدة الداخليّة، وفي الولاء الكلّي للبنان-الوطن، وفي التحلّي بالأخلاقيّة والقيم، وفي المحافظة على ميزات دولة لبنان، وفي تعزيز رسالته ونموذجيّته. 5. شهداؤنا يرقدون في ظلّ سيّدة إيليج، حيث عاش عددٌ من بطاركتنا شاهدين ومحافظين على كنوزهم الثلاثة: الإيمان والحريّة والإستقلاليّة. وقد بلغوا بها مع خلفائهم إلى إعلان دولة لبنان الكبير في أوّل أيلول 1920، وجعلوا من هذه الثلاثة ميزات لبنان ومنطلق رسالته في هذا الشرق.




إنّ ذكرى بطاركتنا الأبطال تمتزج مع ذكرى شهداء المقاومة اللبنانيّة. فمن هؤلاء البطاركة الذين عاشوا في مقرّ سيّدة إيليج البطريركيّ، لابدّ من أن نذكر اثنين البطريرك دانيال الحدشيتي الذي تصدّى للمماليك سنة 1300 وقاوم هجومهم على بلاد جبّة بشرّي ببطولة فائقة. فأوقف جيوشهم أمام إهدن أربعين يومًا. ولم يتمكّنوا منه إلّا بعد أن أمسكوه بالحيلة. فكتب المؤرّخون: "وكان إمساكه فتحًا عظيمًا، أعظم من افتتاح حصن أو قلعة". ونذكر معه البطريرك جبرائيل بن حجولا الذي استشهد حرقًا في النار في ساحة طرابلس، في عهد المماليك المظلم والظالم. 6. لقد واصل البطاركة مقاومتهم وصمودهم بالإيمان والصلاة والعمل مشددين شعبهم بالايمان منتزعين من قلوبهم الخوف، على الرغم من كلّ المعاناة والإضطهادات. وراحوا يسعون تدريجيًّا إلى تحقيق مقوّمات وطن مستقلّ يؤمّن للمواطنين العيش فيه بكرامة وحريّة. فبنى كلّ واحد منهم مدماكًا في صرح هذا الوطن حتى تكلّل باتمام بنائًا جميلاً في عهد البطريرك الكبير المكرّم الياس الحويّك. فنذكر على التوالي البطاركة: موسى العكاري الذي بدأت معه مسيرة التطلّع إلى الإستتقلال الكامل. وتلاه في النهج نفسه مع إنجازات خاصّة البطاركة الثلاثة من آل الرزي. وجاء البطريركان يوحنّا مخلوف وجرجس عميره وتعاونا مع الأمير فخر الدين الثاني الكبير على توحيد البلاد وتحقيق الإستقلال النسبيّ، مع السعي إلى الإستقلال النهائيّ عند نضوج الظروف الدوليّة. كما عاونا الأمير في انفتاحه على الغرب عبر إيطاليا. وكان المكرّم البطريرك الكبير إسطفان الدويهي الذي رسم خريطة الطريق إلى الإستقلال ماديًّا وروحيًّا وتاريخيًّا، وإلى بناء الدولة العتيدة. لقد كان دوره محوريًّا في مسيرة الموارنة بخاصّة واللبنانيّين بعامّة. وخلفه البطريرك يوسف إسطفان الذي فتح في عين ورقة تاريخ التربية في لبنان، كما فتح أسلافه تاريخ إستقلاله. وقد لُقّبت عين ورقة "بأمّ المعاهد في لبنان"، لما أدّت من دور في الحقول الثلاثة: الديني والوطني والثقافيّ. وجاء البطريرك يوسف ضرغام الخازن الذي في عهده التأم المجمع اللبناني الشهير في دير سيدة اللويزة في زوق مصبح 1736 الذي نظم أوضاع الكنيسة المارونية في كل جوانبها فظل مرجعها الدائم. ثمّ جاء البطريرك يوسف حبيش فامتاز بحسٍّ عالٍ من المسؤوليّة في الأمور الكنسيّة التنظيميّة والروحيّة، وفي الشؤون التربويّة الإجتماعيّة، وفي المجالات السياسيّة والوطنيّة. وفي عهده كانت عامية انطلياس. وخَلفه البطريرك بولس مسعد صاحب الدورين الكنسيّ والوطنيّ. وكان دوره المتّصف بالحكمة والصبر تجاه ثورة الفلّاحين وحركة يوسف بك كرم والحرب الأهليّة سنة 1860 التي تبعها إقرار نظام لبنان الأساسيّ. وجاء اخيرًا البطريرك الياس الحويّك الملقّب "بعرّاب لبنان الكبير" الذي له الفضل في إعادة الأقضية الأربعة والمدن الساحليّة التي كان قد سلخها عنه الحكم العثمانيّ. وتميّز البطريرك الحويكبدعوته الدائمة إلى العيش المشترك بين جميع اللبنانيّين، وتعزيز انفتاح الموارنة على محيطهم العربيّ، وباهتمامه بالموارنة المنتشرين في العالم، وعُرف بنداءاته العديدة للتضامن الإجتماعيّ ومقاومة أخطار الحرب العالميّة الأولى والمجاعة. (راجع كلّ ما جاء عن البطاركة فب مقال الدكتور أنطوان نجيم: "مسيرة الكنيسة المارونيّة إلى لبنان الكبير" في كتاب : لبنان الكبير، المئويّة الأولى (للمركز المارونيّ للتوثيق والأبحاث)، ص 24-76.) وهكذا وضع الاساس لفلسفة لبنان السياسيّة بقوله الانتماء الى لبنان يكون بالمواطنة لا عبر الدين وهكذا فصل بين الدين والدولة منذ ١٩٢٠.

7. كلّ البطاركة الذين توالوا على كرسيّ انطاكية وسائر المشرق بعد البطريرك المكرّم الياس الحويّك إلى اليوم، واصلوا السهر على حماية لبنان في جوهر كيانه ودعوته التاريخيّة ورسالته، وباتوا لشعب لبنان علامة رجاء وصمود، وبيت ملاذ. من هذا المنطلق نحن نواصل رفع صوتهم من أجل قيام دولة لبنان على أسسها الدستوريّة والميثاقيّة، المؤهلة لتأمين خير جميع اللبنانيّين وكلّ لبنانّي. واليوم نرفع معكم ايها الحاضرون والمشاهدون والسامعون الصوت عاليًا مطالبين تشكيل حكومة جديدة قادرة، وبانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة قبل نهاية عهد فخامة الرئيس أي قبل الحادي والثلاثين من تشرين الأوّل المقبل، يكون رئيسًا متمكّنًا من كلّ المواصفات التي يجمع عليها كلّ اللبنانيّين. ونطالب بحماية القضاء من كلّ تسييس أو مساومة او ارتهانٍ للناقذين ومن أيّ قرار يمسّ بمبادئه الجوهريّة، ونصب أعيننا حماية التحقيق العدليّ في جريمة تفجير المرفأ. هذه الحرية الكبرى في التاريخ. 8. إنّنا نضع هذه الأمنيات في عهدة أمّنا مريم العذراء سيّدة إيليج، متّكلين على صلوات بطاركتنا القدّيسين، وبحقّ دماء شهدائنا الأبطال. فالله القدير يستجيب صلواتنا ويسمع صراخ شعبنا. له المجد والشكر، الآن وإلى الأبد، آمين.

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page