من L. Dean Brown إلى اليوم: تهجير الموارنة بين الخطة الصامتة والانتحار الذاتي
- Alfred Baroud الفرد بارود
- 6 days ago
- 2 min read

مارونايت نيوز - عام 1976، أُرسل إلى لبنان مبعوثٌ أميركي يُدعى لويس دين براون، في محاولة لاحتواء بدايات الحرب "الأهلية". تنقّل بين الزعماء الموارنة، حاملاً ما قيل إنها مبادرة لوقف النزيف. لكنّ ما لم يُعلن رسميًا، تسرّب لاحقًا عبر مداولات دبلوماسية غربية: فكرة تهجير المسيحيين إلى كندا أو أميركا كحلّ أخير لحمايتهم لكن في الواقع كحل للقضية الاسرائيلية والفلسطينية في تحويل لبنان الى وطن بديل.
رُفضت الفكرة في الشكل والمضمون، لكنّ مفاعيلها بدأت تسلك طريقًا أكثر خطورة: لا تهجير قسري مباشر، بل استنزاف صامت مستمر. بدأت موجات الهجرة تتلاحق، من الحرب إلى الاحتلال، ومن الإقصاء إلى الانهيار المالي الشامل. كل مرحلة كانت تُشبه النزوح، وكأنّ هناك مشروعًا طويل الأمد لتفريغ الأرض من أهلها، من دون إعلان ولا ضجيج.
لكن المشكلة اليوم لا تختصر في السياسات الدولية، بل تتفاقم من الداخل. البيئة التي كان يُفترض أن تحمي الموارنة وتحتضنهم، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى عبء ثقيل. بعض رجال الدين، بدل أن يكونوا رعاة للناس، تحوّلوا إلى أوصياء على مؤسسات لا يعرف الفقير فيها طريقًا. مدارس تستنزف الأهالي، مستشفيات تستثني المحتاج، وجامعات لم تعد تشبه رسالة الكنيسة، بل باتت أقرب إلى مؤسسات ربحية بامتياز. من المفارقة أن من وُجد ليحمي الكرامة، بات يُلزِم المحتاج بالركوع.
وعلى الضفة الأخرى، ينشغل السياسيون المسيحيون بصراعاتهم الصغيرة، ويُتقنون لعبة الشتائم أكثر مما يُتقنون فن بناء المواقف. كل واحد في جزيرته، كل فريق في معركته، وكل زعيم يُنازع على فتات من سلطة لا تكفي إلا لتخريب ما تبقّى. في هذا المشهد، لم يعُد أحد يطرح مشروعًا مسيحيًا موحدًا، ولا أحد يملك الجرأة ليجمع الطاقات تحت رؤية واحدة. فالزعامة أهم من الأرض، والمقعد أهم من الشعب، والبقاء على الكرسي، حتى الرمق الأخير، أهم من بقاء من نمثّلهم.
في ظل هذا الانهيار، لم نعد بحاجة إلى مؤامرة خارجية. فالمؤامرة تُنفَّذ بأيدينا، حين نُهاجر طوعًا، ونُهمّش بعضنا، ونُفرّغ مؤسساتنا من رسالتها، ونُمعن في إنكار الأخطاء. نعم، قد لا يكون التهجير مشروعًا موثقًا في وثائق الأمم، لكنه حاصل، بحجمه، بنتائجه، وبخطورته.
ومع ذلك، لا تزال هناك بارقة أمل. ولا يزال الحل ممكنًا، شرط أن تَعود الجهة الوحيدة التي أثبتت تاريخيًا قدرتها على المبادرة. الكنيسة المارونية، لا بصفتها الدينية فحسب، بل بصفتها الوطنية، كانت دومًا أكثر من حاضنة للإيمان. كانت صانعة محطات مفصلية في تاريخنا. من مار يوحنا مارون الذي أسّس الكرسي البطريركي على الصخر، إلى مار الياس الحويك الذي حمل فكرة لبنان الكبير إلى فرساي، إلى الدور الريادي في تأسيس الجبهة اللبنانية، لم تكن الكنيسة المارونية يومًا متفرّجة. كانت دائمًا مبادِرة، حامية، ضامنة، وموحّدة.
اليوم، عليها أن تستعيد هذا الدور. عليها أن تعود إلى الناس لا إلى السُلّم البروتوكولي. عليها أن تُطلق من جديد نداء الشراكة، لا مع القادة فحسب، بل مع الشعب الذي لم يعُد يثق بأحد. نحن لا ننتظر أن تملأ الكنيسة فراغ السياسة، بل أن تُطلق رؤية تُظلّل الجميع، تجمع ما تشتّت، وتُعيد للمجتمع الماروني روحه وهويته ودوره.
ما زال لدينا ما نحميه، وما زال فينا من هو قادر على النهوض، إن عاد القلب إلى مكانه، وإن خرجنا من عبادة الزعامة إلى روح الرسالة. فما فُقد يمكن أن يُستعاد... إذا عرفنا أين نضع البوصلة.
المحامي الفرد بارود

الصورة: rahul-saraf-hlD0k6ALszo-unsplash
Comentários