top of page

زحلة... عروس البقاع التي أذلّت الحصار وأعلت مجد الكرامة



مارونايت نيوز - قلب سهل البقاع، وعلى كتف نهر البردوني، تقف زحلة مدينةً لا تشبه غيرها. ليست مجرّد تجمع سكاني أو مركز إداري، بل كيان حي ينبض بالعنفوان، وذاكرة شعب لم يعرف الخضوع. زحلة هي قصة لبنان الحقيقي، ذاك الذي لا يُقهر، والذي يعرف كيف يواجه العواصف مهما اشتدّت.

يعود ظهور زحلة كبلدة قائمة بذاتها إلى مطلع القرن الثامن عشر، حين هاجرت إليها عائلات من جبل لبنان فرارًا من النزاعات الإقطاعية والطائفية، واستقرّت في ربوعها الخصبة. لكن روح زحلة كانت أسبق من تاريخها الحديث؛ فهي الموضع الذي التقى فيه الجبل بالسهل، والشرق بالغرب، والفكر بالتراب.

سُمّيت زحلة بهذا الاسم، على الأرجح، نسبة إلى طبيعتها الجغرافية المنحدرة، من الفعل "زَحَل"، أي انزلق. لكنها، في الحقيقة، مدينة لم تَزْحَلْ يومًا عن ثوابتها. من بداياتها، سعت إلى الاستقلال الذاتي، ورفضت الخضوع لأي سلطان خارجي، سواء كان سياسيًا أو طائفيًا.



تميّزت المدينة بطابعها المسيحي الواضح، خصوصًا الكاثوليكي، فكانت موطنًا لعشرات الكنائس والأديرة، ومركزًا ثقافيًا متميزًا في لبنان. أطلق عليها لقب "مدينة الشعر" بعدما أنجبت شعراء وأدباء كان لهم أثر عميق في الثقافة اللبنانية، أمثال سعيد عقل، يوسف المعلوف، نقولا الترك، وميشال طراد.

وفي المجال الاقتصادي، اشتهرت بصناعة العرق والنبيذ، وأصبحت رمزًا للذوق اللبناني الأصيل في المأكل والمشرب، عبر مطاعمها المنتشرة على ضفاف البردوني، التي شكّلت وما تزال وجهة للّبنانيين والسيّاح على حد سواء.

لكن هذه الصورة الهادئة، خلفها تاريخ طويل من المواجهة. لم تكن زحلة يومًا بعيدة عن الصراعات، ولم تتراجع يومًا أمام التهديد. غير أن اللحظة التي اختبرت فيها المدينة أقسى أنواع الحصار كانت في نيسان من العام 1981، حين قررت قوات الاحتلال السوري خنقها عسكريًا.

في الأول من نيسان، فرض الجيش السوري المحتل طوقًا محكمًا على المدينة، وأطلق النار بكثافة من المرتفعات المحيطة. استخدم الطيران والمدفعية الثقيلة والدبابات، وقطع الإمدادات عن السكان. الهدف كان واضحًا: تركيع زحلة وإسكات صوتها السيادي.

لكن ما لم يكن في حسابات المحاصِرين، أن المدينة التي ارتوت بإيمانها وتربّت على مزيج من الكرامة والانفتاح، لن تخضع بسهولة. مجموعة من المقاومين من القوات اللبنانية والكتائب، ومعهم أبناء زحلة أنفسهم، حملوا السلاح وقاتلوا بضراوة، غير عابئين بندرة الذخيرة أو نقص المؤن.




استمر الحصار 88 يومًا. لم تنكسر زحلة، بل تحوّلت إلى رمز حيّ للمقاومة. الصلوات كانت تُرفع في البيوت والكنائس، والنساء كنّ يوزعن الخبز والماء من منزل إلى منزل. الأطفال عاشوا في الملاجئ، لكنهم حفظوا عن ظهر قلب أسماء الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن المدينة.

تحت وقع المدافع والطيران، ووسط عزلة شبه تامة، وقفت زحلة. 88 يومًا من الحصار السوري الكثيف، ظنّ خلالها كثيرون، بل راهن البعض، أن المدينة ستسقط خلال ساعات. لم تكن التقديرات العسكرية لصالحها: مدينة محاصرة، قليلة العتاد، بلا عمق استراتيجي. لكن ما لم يدخل في حسابات المحاصِرين هو أن زحلة ليست مدينة تُقاس بالخرائط، بل تُقاس بالعزائم.

المقاومة لم تكن مجرّد سلاح. كانت شعبًا كاملاً في حالة استنفار روحي ووطني: شبّان وشابات من زحلة، مقاتلو المقاومة اللبنانية، ورجال دين رفعوا الصلوات وهم يسمعون صفير القذائف. من قلب هذا الصمود، تحرّكت الضمائر. الفاتيكان رفع الصوت. فرنسا تابعت الملف. الصحافة العالمية غطّت المعركة. والديبلوماسية الدولية بدأت تضغط في الكواليس.

في النهاية، لم تفكّ القيادة السورية الحصار إلا لأن زحلة أجبرتها على ذلك. لم تكن خطوة انسحاب بل اعترافًا ضمنيًا بأن هذه المدينة، رغم كل شيء، لم تُهزَم. زحلة خرجت من الحصار لا فقط مرفوعة الرأس، بل وقد كتبت واحدة من أصدق صفحات الكرامة اللبنانية، حين برهنت أن مدينة صغيرة بإيمانها الكبير، قادرة أن تهزّ حسابات الجيوش وتُحرّك خرائط السياسة.

اليوم، حين تُذكر زحلة، تُذكر كواحدة من قلاع لبنان الحرّ. مدينة لا تساوم على السيادة، ولا تهادن على الهوية. حكايتها ليست فقط في الأبنية والكنائس والنبيذ والشعر، بل في وقفتها البطولية، حين صار الجوع رفيقها، والموت يحيط بها، لكنها لم تُسلّم.

زحلة هي المدينة التي كتبت التاريخ بدمها، وصنعت المستقبل بكبريائها.

الفرد بارود



المراجع:

  • يوحنا أبي زيد، زحلة في التاريخ والمقاومة، منشورات دار الكتاب اللبناني، 1993.

  • روبير غانم، زحلة: المدينة والملحمة، دار النهار للنشر، 2001.

  • الأرشيف الوطني اللبناني، ملف حصار زحلة 1981.

  • مقابلات موثقة مع شهود عيان في وثائقي MTV “زحلة ما بتركع” 2021.

  • مجلة المسيرة، أعداد نيسان وحزيران 1981.

  • خطاب البطريرك صفير في ذكرى فك الحصار، تموز 1981.

  • أرشيف صحيفة Le Figaro الفرنسية – نيسان 1981.

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page