top of page

كم هو عدد الملائكة الذين كانوا بانتظار كلمة من الرب يسوع المسيح ليلة القبض عليه في بستان جثسيماني؟

ree
ree
«أم تظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقيم لي أكثر من اثنتي عشرة فرقة من الملائكة؟» (متى 26:53)

تأتي هذه الآية في لحظة حاسمة من مسيرة المسيح نحو الصليب، في بستان جثسيماني، بعد أن استلّ بطرس سيفه دفاعًا عن المعلّم. يجيبه يسوع بكلمة تكشف المفارقة بين منطق الإنسان ومنطق الله: القدرة الكاملة من جهة، والطاعة المطلقة من جهة أخرى. الآية تضعنا أمام مشهد تتقاطع فيه القوة السماوية والوداعة الخلاصية، لتُظهر أن الفداء ليس عجزًا بل اختيارًا حرًّا للمحبّة.

القرينة الإنجيلية والموازاة الكتابية

في إنجيل يوحنا (18:11)، يوضح الرب المعنى نفسه بقوله:

«ٱغْمِدْ سَيْفَكَ فِي ٱلْغِمْدِ. ٱلْكأْسَ ٱلَّتِي أَعْطَانِي ٱلْآبُ أَلَا أَشْرَبُهَا؟»هنا يتّضح أنّ المسيح لم يُؤخذ قسرًا، بل تقدّم طوعًا نحو الصليب.

وفي مزمور 91:11-12 نقرأ:

«لأَنَّهُ يُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ.»الآية تكشف أن الملائكة في خدمة مشيئة الله، لا مشيئة الإنسان، وأن حماية الله لا تُستخدم لحماية الجسد بل لتحقيق الخلاص.

أما في سفر الملوك الثاني (19:35) فنجد الموازاة القوية:

«فَخَرَجَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَضَرَبَ مِنْ جَيْشِ أَشُّورَ مِئَةً وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا.»إن كان ملاك واحد قد أهلك جيشًا، فكم بالحريّ اثنتا عشرة فرقة من الملائكة؟ لكن المسيح رفض استدعاءها، لأن ساعة الخلاص قد أتت.

المعنى اللغوي والرمزي

اللفظة اليونانية الأصلية «ليغيون» (Λεγεὼν) تعني "فرقة عسكرية رومانية" مؤلفة من نحو ستة آلاف جندي.إذًا، اثنتا عشرة فرقة تعادل أكثر من اثنين وسبعين ألف ملاك، وهي إشارة رمزية إلى الكمال العددي والقدرة الكونية.لكن الرقم هنا ليس حسابًا دقيقًا، بل صورة رمزية تعني أن كل جند السماء في خدمة ابن الله إن أراد.

الآباء القديسون

  • القديس يوحنا الذهبي الفم يرى في الآية إعلانًا لسلطان المسيح:

    «لم يقل أطلب من أبي أن يرسل لي، بل أن يقيم لي، لأن الملائكة قائمون دوماً بخدمته. لكنه صمت ليعلّمنا أن الخلاص لا يُنال بالسيف بل بالطاعة.»(Homiliae in Matthaeum, 85)

  • القديس كيرلس الإسكندري يكتب:

    «أظهر المسيح أنه صاحب السلطان على السماء والأرض. لكنه لم يستخدم هذا السلطان بل تنازل طوعاً ليُكمل سرّ الفداء.»(Commentary on Luke, Hom. 133)

  • القديس أثناسيوس الكبير يشرح:

    «الذي خلق الملائكة لا يحتاج إلى معونتهم. إنما ذكرهم ليُظهر أنه يتألم بإرادته، لا بضعف.»

  • القديس أغسطينوس يقدّم تأملاً لاهوتيًا:

    «اثنتا عشرة فرقة ترمز إلى الكنيسة الجامعة، لأن من يتبعه يتحد بجند السماء في مشيئة واحدة.»(De Civitate Dei, XX.20)

  • القديس أفرام السرياني يرى أن بطرس نظر إلى الحديد والمسيح إلى السماء:

    «رفع بطرس السيف، فرفع الرب عينيه إلى أبيه، وهكذا فُتح طريق الخلاص.»

التفسير الكنسي الكاثوليكي

الكنيسة الكاثوليكية تضع النص في سياق سرّ الطاعة والآلام.فبحسب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (§§ 606–609):

«يسوع قدّم ذاته للآب طوعًا من أجل البشر، وباختياره هذا أتمّ مشيئة الله الخلاصية.»

الملائكة هنا يشيرون إلى قدرة الله الدائمة على التدخل، لكنها قدرة لا تُستعمل إلا في إطار مشيئته الخلاصية.المسيح لم يطلب النجاة لأنه جاء ليقدّم نفسه ذبيحة حبّ، لا ليطلب حماية الملائكة.

التفسير الأرثوذكسي

الكنيسة الأرثوذكسية تقرأ النص في ضوء الخلاء الإلهي (كينوسيس):

«الرب الذي يملك القدرة المطلقة أخلى ذاته من المجد ليُظهر أن المحبة أقوى من القوة.»

يقول الأب جورج فلورفسكي:

«تخلّي المسيح عن الملائكة هو التعبير الأكمل عن قدرته. القوة التي تمتنع عن استعمال ذاتها هي أعظم من القوة التي تفرض ذاتها.»أما الأب يوحنا زيزيولاس فيرى أن الصليب هو لحظة إعادة تعريف للسلطة:«السلطة في المسيح تُقاس بقدر الاستعداد للتضحية، لا بالقدرة على السيطرة.»

التفسير البروتستانتي

اللاهوت الإنجيلي، خصوصًا في تقليد المصلحين، يرى في الآية دليلاً على سيادة المسيح.يقول المفسّر جون ماك آرثر (John MacArthur):

«المسيح لم يكن ضحية الظروف، بل القائد الذي يختار ساعته. كان يستطيع أن يوقف كل شيء، لكنه مضى بإرادته نحو الصليب.»(The Second Coming, p. 112)

أما مارتن لوثر فيشير إلى أن الملائكة تمثل «الناموس والخدمة»، أما الصليب فيمثّل «النعمة والحرية»، والمسيح اختار النعمة بدل القوة.

القراءة الأكاديمية الحديثة

الباحث Craig Keener يرى أن العدد "اثنتا عشرة فرقة" ليس حسابًا بل "بيان ملوكيّ":

«يسوع يتحدث بلهجة الملك الذي يستطيع أن يستدعي جيوش السماء لكنه يختار طريق التواضع ليخلّص رعاياه.»(Matthew: A Socio-Rhetorical Commentary, p. 626)

أما N. T. Wright فيعتبر أن المشهد يمثل ذروة الصراع بين ملكوت الله وملكوت العالم:

«القوة التي تقاس بالسيوف هي مؤقتة، أما القوة التي تُقاس بالمحبّة فهي أبدية.»(Jesus and the Victory of God, p. 423)

المقابلة مع المجيء الثاني

في المجيء الأول، رفض المسيح جيوش الملائكة.أما في المجيء الثاني، فيأتي على رأسها كما في رؤيا 19:11-14:

«ثم رأيت السماء مفتوحة... والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض، لابسين بزًّا أبيض نقيًّا.»

هنا يتحقّق ما أخفاه في جثسيماني:القائد الذي صمت أمام العنف سيقود جيوش النور عند الدينونة.ويشرح القديس باسيليوس الكبير أن هذا الجيش يضمّ الملائكة والقدّيسين معًا، «جيش البرّ والمجد الأبدي.»

خاتمة

الآية تكشف عن المفارقة الكبرى في شخص المسيح:من يملك جيوش السماء اختار طريق الصليب.من يستطيع أن يأمر الملائكة بالصوت، أمر قلبه بالصمت.

هي ليست عبارة عن عجز، بل عن سلطانٍ يُمارس بالمحبّة.وفي نهاية الأزمنة، سيُرى الملك نفسه — الذي رفض القتال — آتيًا على السحاب،محاطًا بجيش لا يُحصى من الملائكة والقدّيسين،ليظهر أن القوة التي تصمت من أجل الحبّ هي أعظم من كل جيوش الأرض.

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page