top of page

الروح القدس في ساعة الشهادة تفسير لوقا ١٢: ١١–١٢

ree

ree
لوقا ١٢: ١١–١٢ «وَمَتَى قَدَّمُوكُمْ إِلَى الْمَجَامِعِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ، فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَحْتَجُّونَ أَوْ بِمَا تَقُولُونَ، لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ يُعَلِّمُكُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا يَجِبُ أَنْ تَقُولُوهُ.»

أولاً – المقارنة مع باقي الأناجيل

النصّ نفسه ورد في إنجيل متى ١٠: ١٩–٢٠ ضمن وصايا يسوع للرسل أثناء إرسالهم للكرازة:

«فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّهُ يُعْطَى لَكُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ.»

وفي مرقس ١٣: ١١ في سياق النبوءة عن الاضطهادات قبل خراب أورشليم:

«فَمَتَى قَادُوكُمْ وَسَلَّمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا مُسْبَقًا بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، وَلاَ تَهْتَمُّوا، بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَبِذَلِكَ تَكَلَّمُوا، لأَنَّهُ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ.»

أمّا يوحنا فلا يورد الحدث نفسه، لكنه يقدّم المقابل اللاهوتي لهذا التعليم في وعد المسيح بالمعزّي:

«وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا ١٤: ٢٦).

الربّ إذًا لا يَعِد فقط بحضور النعمة وقت الاضطهاد، بل بحضور الروح الذي يتكلّم من خلالهم، فيتحوّل الخوف إلى شهادة.


ثانيًا – المقارنة مع العهد القديم

يتقاطع مضمون هذا الوعد مع عدّة مواضع في الأسفار القديمة:

خروج ٤: ١٢: «فَاذْهَبِ الآنَ، وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ، وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ.»

إرميا ١: ٩: «فَمَدَّ الرَّبُّ يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي، وَقَالَ لِي الرَّبُّ: هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلِمَاتِي فِي فَمِكَ.»

مزمور ٨١: ١٠: «افْتَحْ فَمَكَ فَأَمْلَأَهُ.»

هذه النصوص تُظهر أنّ الله نفسه هو مصدر الكلمة الحقّة في أفواه خدامه عبر التاريخ، من موسى إلى الأنبياء، وصولاً إلى تلاميذ المسيح.


ثالثًا – تفسير الآباء حسب الترتيب الزمني


أوريجانوس (Origen) – القرن الثالث

يرى أنّ الروح القدس لا يعلّم فقط ما يُقال بل متى يُقال وكيف، لأنّ الكلمة التي تخرج من المؤمن في لحظة الاضطهاد ليست من ترتيب بشري بل من توافق بين الروح والعقل المستسلم لله.

المرجع: Homilies on Luke, Origen, PG 13:1813.


القديس باسيليوس الكبير (Basil the Great) – القرن الرابع

يقول إنّ الروح القدس يثبّت القلب قبل أن يُلهم اللسان، فالقوة التي تسبق الكلمة هي عمل النعمة التي تنزع الخوف من الداخل.

المرجع: De Spiritu Sancto, Basil, PG 32:144.


القديس أمبروسيوس (Ambrose of Milan) – القرن الرابع

يفسّر أنّ هذا الوعد لا يقتصر على الرسل وحدهم، بل يمتدّ إلى كلّ مؤمن يُستدعى للشهادة، لأنّ الروح القدس هو المعلم الدائم للمسيحي في كلّ جيل.

المرجع: Expositio Evangelii secundum Lucam, Ambrose, PL 15:1800.


القديس يوحنا الذهبي الفم (John Chrysostom) – القرن الرابع–الخامس

يعلّق قائلاً إنّ المسيح لا يدعو إلى التهاون في التحضير، بل إلى الثقة بالله، لأنّ الكلمة في تلك الساعة ليست ثمرة فكر بشري بل ثمرة حضور إلهي:

«حين يشتدّ الخوف، تتجلّى النعمة».

المرجع: Homilies on Matthew, Chrysostom, PG 57:384.


القديس كيرلس الكبير (Cyril of Alexandria) – القرن الخامس


يكتب أنّ الروح القدس «يملأ أفواه القديسين حكمةً لا يستطيع المقاومون أن يردّوا عليها»، مستنداً إلى وعد المسيح في (لوقا ٢١: ١٥).

المرجع: Commentary on Luke, Cyril, PG 72:640.


القديس أوغسطينوس (Augustine) – القرن الخامس


يرى أنّ الكلمة التي يُعطيها الروح في تلك الساعة ليست من الذاكرة البشرية، بل من الإلهام الفوري الذي يجعل الكلام نافذًا ومقنعًا في آنٍ واحد.

المرجع: Sermons on the New Testament Lessons, Augustine, PL 38:710.


القديس يوحنا الدمشقي (John of Damascus) – القرن الثامن


يعتبر هذا النصّ إعلانًا عن سرّ الشهادة (المارتيريا)، حيث يعمل الروح في المؤمن كما عمل في الأنبياء والرسل، فتتحوّل الكلمة إلى فعل خلاص.

المرجع: De Fide Orthodoxa, John Damascene, PG 94:1150.


رابعًا – تفسير الكنائس


الكنيسة الكاثوليكية

تُعلّم أنّ الروح القدس هو الذي يهب الشجاعة والحكمة للمؤمن في لحظة الشهادة، كما حصل مع بطرس ويوحنا أمام المجمع (أعمال ٤:٨–١٣). الكلمة الخارجة منهم هي امتداد لحضور المسيح فيهم بواسطة روحه.


الكنيسة الأرثوذكسية

ترى في النصّ وعدًا بحضور الروح القدس داخل الكنيسة كشاهد حيّ. فكما نطق الشهداء القدامى بالحقّ دون خوف، كذلك يستمرّ الروح في إنطاق الكنيسة اليوم، لأنّ "النعمة لا تُحَدّ بزمن".


الكنيسة الإنجيلية

تُبرز الجانب الشخصي في العلاقة مع الروح القدس، معتبرة أن المؤمن المولود من الروح يُرشد داخليًا إلى الحقّ، فيتكلم بالصدق لا بوحي جديد بل بإنارة الكلمة المغروسة في قلبه.


الكنيسة المارونية

تربط هذا المقطع بسرّ الرسالة والشهادة المارونية في التاريخ، حيث لم تكن الكلمة من فصاحة بشر بل من نار الروح. فالروح القدس في التقليد الماروني هو «الناطق بالحقّ في أزمنة الخطر»، والكنيسة ترى في هذا الوعد دعوة دائمة للثبات في الإيمان مهما اشتدّ الاضطهاد.


خامسًا – الخلاصة الروحية


هذه الآية ليست مجرّد وعد تاريخي بل نهج حياة روحية.

حين يجد المؤمن نفسه في موقف يتطلّب شهادة للحقّ، لا يكون عليه أن يرتّب كلماته، بل أن يهيّئ قلبه. فالقلب المنفتح على الروح ينطق بالحكمة دون تكلّف. الروح القدس لا يُعطي فقط الجواب، بل السلام الذي يجعل الجواب ممكنًا.

من يخضع للروح يصبح لسانه أداة للنعمة، وكلامه شهادة لا دفاعًا.

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page