الدين والسياسة: لعبة نفوذ لا تنتهي
- Alfred Baroud الفرد بارود

- Aug 26
- 2 min read

مارونايت نيوز - منذ وُجدت المجتمعات، ظلّ السؤال حاضرًا: أيهما يقود الآخر؟ الدين الذي يحرّك القلوب باسم المطلق، أم السياسة التي تُمسك بزمام المصالح وتتحكّم بحياة الناس؟ وبينهما خيط مشدود لا يقطع، بل يتبدّل بحسب الأزمنة والأنظمة.
حين يلبس الحاكم عباءة الدين
كثيرون من الحكّام ربطوا حكمهم بما هو سماوي. في أوروبا الوسطى، لم يكن الملك ملكًا بحق إلا بتاج تمنحه الكنيسة. وفي العالم الإسلامي، كان السلطان بحاجة إلى غطاء الفقهاء. الدين هنا لم يكن فقط رسالة روحية، بل أيضًا جذرًا يمنح الحكم شرعية.
عندما يتحوّل المقدّس إلى شعار سياسي
لكن السياسة بدورها عرفت كيف تستغل الدين. الحروب الصليبية مثلًا، رُفعت باسم اورشليم، لكنها كانت أيضًا مشروعًا للهيمنة على طرق التجارة. والانقسامات المذهبية في التاريخ كثيرًا ما غذّتها حسابات السلطة أكثر مما غذّتها نقاشات لاهوتية.
من يستخدم الآخر؟
أحيانًا كان رجال الدين يفرضون شروطهم على الملوك، كما فعل البابا غريغوار السابع مع الإمبراطور هنري الرابع. وأحيانًا أخرى، كان الحكّام يسجنون الباباوات أو يفرضون على رجال الدين الولاء. علاقة شدّ وجذب، فيها تبادل أدوار بحسب ميزان القوى.
دول حكمت باسم الدين
ولم تقتصر العلاقة على التأثير غير المباشر. فالتاريخ عرف دولًا حكمت مباشرة باسم الدين. في الخلافة الإسلامية، وُصف الخليفة بأنّه "ظلّ الله على الأرض". في أوروبا الوسيطة، سيطرت الكنيسة حتى على حياة الناس اليومية، ومحاكم التفتيش صارت ذراعًا سياسية. في جنيف، أقام كالفن جمهورية دينية تُدار بقوانين الإنجيل. وفي العصر الحديث، برزت إيران كنموذج لدولة قائمة على ولاية الفقيه، حيث القرار السياسي محكوم بسلطة دينية. النتيجة غالبًا واحدة: الدين دخل في صراعات السياسة، والسياسة اكتسبت سلاحًا إضافيًا باسم المطلق.
صراع المطلق والنسبي
جوهر الإشكالية أنّ الدين يتحرّك في فضاء المطلق، بينما السياسة تتحرّك في عالم النسبي. وعندما يحاول المطلق السيطرة على النسبي، تتحوّل السياسة إلى لاهوت سلطوي. وعندما يستولي النسبي على المطلق، يتحوّل الدين إلى شعار فارغ. والاثنان يخسران معًا.
الغرب في مواجهة التنوّع الديني
اليوم، الغرب يعيش صورة جديدة للصراع. مع تدفّق الهجرات، تعالت الأسئلة: هل تسمح القوانين بالحجاب؟ هل تُدرّس الأديان في المدارس؟ هل تُبنى المساجد بحرية؟ هنا السياسة تضع القوانين لتبقى الهوية الوطنية متماسكة، والدين يطالب بمساحة أكبر من الحرية والاعتراف. إنها النسخة الحديثة من لعبة النفوذ القديمة.
لبنان: الدين والسلطة في قبضة الطائفية
أما لبنان، فالقصة أوضح وأعقد في آن. من تأسيسه، صار النظام مبنيًا على المحاصصة. الزعيم يستمد قوته من طائفته، والطائفة يترسّخ نفوذها من زعيمها. الدين صار بطاقة دخول إلى السلطة، والسياسة تحوّلت رهينة الطوائف. هكذا ضاع الحدّ الفاصل بين ما هو لله وما هو لقيصر، فلم تنتج السياسة دولة حديثة، ولا حافظ الدين على صفائه.
بين الفصل والتداخل… أين المخرج؟
هل الحل في الفصل التام؟ التجربة العلمانية تقول نعم. لكن هناك من يرى أنّ السياسة بلا قيم دينية تتحوّل إلى آلة باردة. ربما الجواب ليس في الفصل المطلق ولا في الدمج المطلق، بل في التوازن: أن يبقى الدين ضميرًا للقيم، وأن تبقى السياسة إدارة للعلاقات والمصالح. لكن هذا التوازن هشّ، ولا يعيش إلا بوعي الشعوب وإرادتها.
أسئلة بلا جواب نهائي
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع الإنسان أن يرسم خطًا واضحًا بين المقدّس والزمني؟ أم أنّهما سيبقيان يتنازعان، يجرّ أحدهما الآخر جيلاً بعد جيل؟ وهل يمكن أن يولد وعي جديد يضع حدًا لهذه اللعبة القديمة، أم أنّها قدر مكتوب على مسيرة المجتمعات؟
الفرد بارود
الصورة: nathan-dumlao-k-oS0iKn0Qg-unsplash














Comments