top of page

هل نملك الجرأة لنرى أنفسنا كما نحن؟

ree

مارونايت نيوز - بقلم الفرد بارود - الإنسان بطبيعته ميّال إلى ما يُعرف بـ«الفكر التمنّي»، أي أنه يبني تصوّراته وآراءه على ما يتمنّى لا على ما هو قائم. واللبناني ليس استثناءً، بل هو المثال الأوضح على ذلك، خصوصًا في السياسة حيث تُبنى المواقف لا على المعطيات، بل على الأماني. فيتحدّث السياسي والمواطن معًا انطلاقًا ممّا يرغبان أن يكون، لا ممّا هو فعلاً موجود، وكأنّ مواجهة الواقع صارت جريمة يجب التهرّب منها. هذه الذهنية جعلت اللبناني يرفض الاعتراف بحقيقة واقعه كي لا يضطر لتحمّل مسؤوليته الفردية. فبدل أن يسأل نفسه ماذا يمكن أن يفعل هو، ينتظر أن يأتي الحلّ من الخارج.

منذ تأسيس لبنان الكبير، اللبناني يعيش على فكرة أن هناك دائمًا جهة خارجية ستأتي لتُصلح الأمور وتعيد التوازن، كأنّ الخلاص قدرٌ لا يمكن أن يصنعه اللبناني بيديه. كلّ طائفة تنتظر حليفها الخارجي، وكل فريق سياسي يُخفي عجزه خلف شعار الولاء لمَن هو أقوى. وهكذا تحوّل البلد إلى ساحة انتظار دائمة. لم نشهد يومًا جهة أو قيادة أو مجموعة قررت أن تبني وطنًا انطلاقًا من واقعه، من مشاكله الحقيقية، من حاجاته الفعلية. كلّ المشاريع السياسية كانت تخدم راعياً خارجياً أو مشروعاً غير لبناني، وكلّ نزاع ميداني تحوّل إلى دم يُسفك على أرض الوطن خدمةً لغيره.

في التعليم، الصورة ليست أفضل. فالمدارس والجامعات، الرسمية والخاصة، لا تزرع في الأجيال فكرة التفكير النقدي، ولا تُنشئهم على طرح حلول وطنية. النتيجة جيلٌ يعيش على الشعارات، لا على المبادرات. لم يتعلّم اللبناني أن ينتمي لوطنه قبل طائفته، بل العكس هو الصحيح، فصار الانتماء الديني أو المذهبي أقوى من الانتماء للأرض. ومع هذا التناقض، يستحيل بناء دولة. اللبناني لا يزال يعيش على أمل أن يأتي أحدٌ بعصا سحرية يخلّصه من مأساته ويقدّم له وطنًا جاهزًا، فيظلّ يدور في حلقة مفرغة من الانتظار، من دون أن يمدّ يده لبناء ما يريد.

هكذا تبدّل المحتلّون والرعاة، لكن الذهنية واحدة: انتظار من يفرض النظام من الخارج بدل أن يصنعه اللبناني بنفسه. ونهر الكلب شاهد على هذا التاريخ المتراكم من الغزوات والولاءات والانقسامات. لم يكن اللبناني يومًا صانع قراره ولا صانع دولته، بل متلقّياً لما يُفرض عليه. ومع كل تبدّل للظروف، يتكرّر المشهد نفسه بأسماء مختلفة.

أنا أرفض وصف هذا الواقع بالتشاؤم، لأنّ التشاؤم يعني الاستسلام، أما ما نعيشه فهو دعوة إلى الوعي والمراجعة. الخيانة الحقيقية لا تبدأ عند الفعل، بل عند الفكرة، حين يقبل الإنسان بما يُفرض عليه دون أن يسأل إن كان ذلك يليق ببلده أو يناسب مصلحته الوطنية. عندها تتحوّل التبعية إلى خيانة فكرية، أخطر من أي خيانة عملية.

لبنان اليوم ليس أمام مفترق واحد، بل أمام مفترقات عدّة تشكّلت منذ نشأته، لأن اللقاءات التي جرت بين أبنائه كانت غالبًا من أجل مصالح آنية أو أجندات خفية، لا من أجل مشروع وطني جامع. حتى عندما وُجدت بعض اللحظات التاريخية التي بدا فيها وكأن اللبنانيين اتفقوا، كان كلّ طرف يحمل هدفًا مختلفًا عن الآخر. لهذا السبب لم يتأسّس مفهوم الدولة يومًا على قاعدة ثابتة. ومع ذلك، ربما تكون اللحظة الراهنة الفرصة الأخيرة المتاحة لنا كي نعيد صياغة علاقتنا بوطننا.

علينا أن نجلس معًا كلبنانيين، لا كأتباع طوائف، وأن نقرر كيف نريد أن نعيش، وأيّ نظام نريد أن يحكمنا. علينا أن نقرأ المتغيّرات الدولية من حولنا بوعي، ونفهم إن كانت تتناسب مع قيمنا وإيماننا، أو تتعارض معهما. لا يمكن أن نبقى مشغولين بقشور الأمور فيما الأساس يتآكل: من الكهرباء إلى المياه، ومن الطرقات إلى الخدمات. حتى الملفات الإدارية التي لا علاقة لها بطائفة أو مذهب، صارت ضحية للشلل العام وللانقسام المزمن.

لقد بلغ الإفلاس في السياسة وفي فكرة بناء الوطن ذروته. الخطابات العقائدية لا تُشبع جائعًا ولا تُضيء بيتًا، والاصطفافات الطائفية لم ولن تبني وطنًا. ما ينقص اللبنانيين اليوم هو الجرأة الفكرية والوعي الوطني ليجلسوا معًا، ويبتكروا نظامًا جديدًا يحفظ لكل فرد هويته وإيمانه، ولكن في إطار وطن واحد، كريم، مستقرّ، ينهض على الشراكة الحقيقية والمسؤولية المتبادلة. لأنّ الخلاص لا يأتي من الخارج، ولا من شعار، بل من لحظة وعي صادقة نقرر فيها أن نكون نحن… صُنّاع وطننا.

الصورة: shawn-day-ii6BOPjAtVY-unsplash

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page