top of page

يوحنا مارون: البطريرك الذي أعلن استقلال الجبل

من أبناء الأرض إلى أبناء الرسالة

بقلم ألفرد بارود   (Alfred Baroud) 


ree

مارونايت نيوز - في القرن السابع الميلادي، وبين اضطراب العقائد واهتزاز الإمبراطوريات، ولد حدثٌ غيّر وجه الشرق المسيحيّ: انتخاب يوحنا مارون أول بطريرك على أنطاكية وسائر المشرق.

لكنّ هذا الحدث لم يكن مجرّد خطوة كنسية، بل تتويجًا لمسيرة شعبٍ لبنانيٍّ أصيل كان يعيش في جبل لبنان منذ الأزمان الفينيقية والآرامية، ووجد في الإيمان المسيحيّ استمرارًا لرسالته التاريخية في الحرية والاستقلال.


ree

 

لقد ورث الموارنة أرضهم لا من إمبراطورية ولا من فتوحات، بل من جذورهم الجبلية القديمة. فالذين عاشوا في جبيل وبشري وإهدن والبترون وكسروان والمتن...، هم أنفسهم أحفاد اللبنانيين الذين بنوا المعابد في بعلبك وعبدوا الإله "إيل" و"بعل" قبل أن يعرفوا اسم روما. وعندما دخل نور الإنجيل، لم يُنتزعوا من أرضهم، بل تعمّد الجبل بالإيمان الجديد على يدّ ابراهيم القورشي الراهب الماروني دون أن يفقد لغته أو خصوصيّته أو عناده في وجه كلّ محتلٍّ وغريب.

 

في تلك المرحلة، حاولت الإمبراطورية البيزنطية أن تفرض على الكنائس الشرقية ما عُرف بعقيدة “المشيئة الواحدة” في المسيح، مخالفةً لتعاليم مجمع خلقيدونية (451م).

رفض الموارنة، ومعهم عدد من الأساقفة والرهبان، هذا الإملاء. وعندما اشتدّ الاضطهاد، اجتمعوا في دير مار مارون على العاصي، واختاروا يوحنا مارون بطريركًا عليهم — قرارًا لم يكن كنسيًا فحسب، بل سياديًا بامتياز.

فمنذ تلك اللحظة، وُلدت كنيسة حرّة على أرضٍ حرّة.

 

البطريرك يوحنا مارون لم يأتِ ليُنشئ جماعة جديدة، بل ليُعبّر عن وجدان أبناء الجبل الذين عاشوا في لبنان منذ القدم. وقد نقل مقرّه إلى كفرحي – جبة بشري، في قلب جبل لبنان، مؤكّدًا أنّ هذا الشعب ليس تابعًا لعاصمةٍ ولا خاضعًا لعرش، بل صاحب أرضٍ وهويةٍ وإيمانٍ.

ومن هنا بدأت الكنيسة المارونية تترسّخ ككيانٍ يجمع بين الروح والكيان، بين المذبح والبيت، بين الله والوطن.

 

كتب البطريرك إسطفان الدويهي في "تاريخ الأزمنة":

 

«إن الموارنة منذ يوحنا مارون لم يعرفوا راعيًا من الغرباء، بل كان بطريركهم من بينهم، يجلس في جبالهم، ويقودهم بروح الله لا بسلطة القيصر.».

 

لم يكن انتخاب يوحنا مارون ثورةً على الإيمان، بل عودةً إلى أصالة الإيمان، وإلى مفهوم لبنان كأرضٍ لا تُخضعها الإمبراطوريات لأنّها قائمة على حريّة الإنسان.

ولهذا، لم يكن غريبًا أن يعتبره المؤرخون الموارنة رمزًا للاستقلال الروحي والسياسيّ الأول في الشرق — فالسيادة عنده كانت عقيدة، لا طموحًا.

 

منذ يوحنا مارون، صار الجبل مدرسة للثبات، وصار الإيمان فيه هوية وطنية.

فالموارنة لم يصعدوا إلى الجبل ليحتموا، بل وُلدوا فيه ليحموا رسالتهم.

ومن ذلك الجبل، الذي لم يخضع إلا لله، خرجت فكرة لبنان الحديث: بلد صغير بحجمه، كبير برسالته، مستقلّ بكرامته.

 

يوحنا مارون لم يعلن استقلال الكنيسة فحسب،

بل أعلن ولادة لبنان الحرّ قبل أن يُكتب اسمه على خريطة.


الفرد بارود

 

المراجع

 

البطريرك إسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، الفصل الرابع والخامس – المطبعة الكاثوليكية، بيروت.

الأب لويس شيخو اليسوعي، النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، الجزء الثاني، بيروت 1908.

البطريرك أنطوان خريش، تاريخ الموارنة الديني والسياسي، المؤسسة الكاثوليكية، بيروت 1979.

ميخائيل الغزي، تاريخ أنطاكية، مخطوط بيزنطي من القرن الثامن.

الأب بطرس ضو، الكنيسة المارونية: جذورها، هويتها ورسالتها، منشورات النور، بيروت 2010.

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page