top of page

الموارنة بين الواقع والخيال



يكتشف الماروني عندما يهاجر، أن العالم لا يبرم حوله ولا حول لبنان، لكن مع الوقت يعرف أنه يبرم حول نفسه الى حدّ التمجيد (المحطة الإلزامية لكل غريب عن الله وصولاً الى عبادة المسيح الدجال).

مهلاً! أنا ماروني أباً عن جدّ من طرف والدي ومن طرف والدتي. إذاً لا أقبل المزايدة لا في الأصول ولا في الشوفينية المارونية (chauvinisme maronite)، لكنني طرحت شوفانيتي خارجاً ليدوسها من يدوسها لأنها لا تقدم لي الخلاص الحقيقي.

تمهل أيضاً! اذا كنت غير ماروني فأنا لا أكتب لأرضيك أو أستهويك أو أجاريك، فأنت، إن أردت السوء للموارنة، فستجدني أول المتصدين لك.

حان الوقت للأمة المارونية أن تعود الى الكرة الأرضية وتترك حصان خيالها يحترق بنور الواقع. فليعد كل ماروني الى رشده ويتذكر أنه فلاح ابن فلاح وأب لفلاح حتى لو حمل أعظم الشهادات، وهكذا الى الأبد. فليتوقف عن التناسي بأن تاريخ الموارنة صنعوه أجدادنا بسواعدهم وقوتهم وعقولهم. لكن ليس في القصور إنما في الحقول والوديان والجبال.

أمّة وقفت كالصخر في وجه الامبراطوريات عبر العصور، متسلحة بايمانها وبالحقّ. لم تعتدي على أحد، ولم تغزو أحد. انتشرت عبر العصور بقوة العمل والفكر والايمان.

أمّة لها كنيستها التى تحمل اسم شفيعها والذي نعيده اليوم.

أمّة حرّة ككنيستها منذ نشأتها. كنيسة لبنان هي الكنيسة المارونية أي أنها وبالمعنى اللبناني، بلديّة. أي أن الماروني لبناني وليس أوروبي أو عربي. ثقافته لبنانية المنشأ غير مستوردة مثل معظم مدارسنا المسيحية وجامعاتنا للأسف. (من استفزه كلامي ويريد أن يتنطح! فاليتمهل ويفكر أولاً، فأنا لا أجيب على الضجيج الجايي من تحت).

بناءً عليه لن تكفي عشرات ملايين الصفحات لكتابة تاريخنا وآدابنا وفنوننا، ولن يتوقف أبناء طائفتنا عن الاستمرار في الكتابة وفي الإبداع في كل المجالات. لكن سأكتفي بهذا القدر هنا لأكمل ما بدأت به موضوعي.


طبعاً أتكلم عن الأساس وليس عن ما آلت اليه الأمور بسبب أخطاء موارنة أغبياء غارقين بالأنانية.

صغيرنا قبل كبيرنا يعرف بأن أحوال الموارنة اليوم ليست على ما يرام، والأسباب عديدة وكلها مهمة وجوهريّة، أعرض بعضها على أن أعالج بالعمق في وقت لاحق الكثير من المواضيع.

صراعنا القاتل على الزعامة هو بذاته مرض نفساني يحمل في طياته أسباب تراكمت وتفاقمت عبر القرون. وهذا المرض لا يخص الموارنة فقط فهو طال ويطال كل البشر. لكن الأسباب الخاصة بالموارنة تجعله متفاقماً متغلغلاً بالصميم حتى أنه يطال الشخصية والكيان.

عموماً تمجيد الانسان لذاته وسعيه لإبرازها ليصبح الأنا المفخمّة والمعظمّة التي تستجلب خضوع الما دون اجتماعياً ومادياً والسيطرة عليهم، هي حالة تجدها في كل المجتمعات والعصور. أساسها مرتبط بالخطيئة الأصلية حيث اصبح الانسان معتبراً نفسه الهاً.

طبعاً الايمان بربنا والهنا يسوع المسيح يساعد الانسان في التغلب على ذاته ويفتح له من جديد باب الملكوت والحياة الأبدية لأنه وبكل بساطة عهد الله الجديد مع الانسان.

بالعودة الينا، نضيف على الخطيئة الأصلية التي تطال جميع البشر، خطايانا الخاصة وأهمها هي الأنا المارونية المعظمّة.

يعتقد البعض بأن صراع الترأس عند الموارنة بدأ بعد أن أصبحت رئاسة الجمهورية من حصة الموارنة في دولة لبنان الكبير التى كنّا نحن في أساسها. ممكن أن يكون هذا المركز قد فاقم المرض لكنه ليس السبب.

أعود في التاريخ الى أبعد بكثير من الجمهورية اللبنانية، الى حمضنا النووي الفينيقي، حيث كان أجدادنا يعيشون في لبنان (ق.م. أي قبل البشارة) لكن لكل مدينة ملك وتحت الملك كهنة وأمراء ووجهاء، وطبعاً الشعب "العادي" (تعبير أمعن إعلامنا المضلِلْ في استعماله ترسيخاً للشرخ الاجتماعي والطبقي وهذا خدمة جوهريّة للشيطان لأن في ذلك تحويل الهدف عن خدمة الله توسلاً للملكوت، الى خدمة الذاة توسلاً للمجد الباطل وصولاً الى عبادة المسيح الدجال في آخر الأزمنة).

بعده تغيرت السياسات والدول فذهب محتل وأتى غيره.

لكن مجتمعنا لم يتغير واستمرت الطبقية وصار اسمها أحزاب أي النيواقطاعية. وكان هؤلاء يبيعون ولائهم وأرواحهم للمحتل مقابل حماية أملاكهم وقصورهم ومراكزهم وتوريث ذريتهم السخيفة والملعونة.

فأصبح ساكن القصر تشخص اليه أنظار الناس وليس الى الله. قال الرب من ثمارهم تعرفونهم، أي حتى لو اعتبر كثيرون أنهم يعبدون الله، لكن أفعالهم تذهب في اتجاه السعي الى التشابه بساكن القصر.

لكن كيف لا وهذا الفلاح الضحية يرى رعاته أيضاً كيانهم شاخص نحو القصر وسيّده؟

فترسخ في عقول الموارنة عقيدة لا يمكنهم فصلها عن ايمانهم الضال المترسخ عبر العصور والملقّن باحترافية لا مثيل لها لكنها لا تشبه تعاليم ربنا والهنا ابن الله يسوع المسيح الحيّ القائم من بين الأموات واهب لنا الحياة الأبديّة والذي أعدّ لنا مساكناً في الملكوت منذ البدء.

فأصبح الماروني مجتهداً ليصبح كسيد القصر، فأباح جميع الوسائل ليصل. فإن وصل الى شيء تظهر شروره. وإن وصل الى أعلى مرتبة، خدم السيد الآخر!

لماذا يستقبلهم ويحمي مواقعهم من هو أمين على الانجيل وكلمة الحق اذاً؟ ربما ليدعوهم الى التوبة؟ أريد أن أكون ساذجاً هنا! نعم ليدعوهم الى التوبة. لكن ماذا عن باقي الخراف الذين ضاعوا وتسمم قلبهم بهذه التبعية، من يهديهم ويحررهم من هذا الإنحدار؟

عندما صدر كتابي الحج الى لبنان Pilgrimage To Lebanon ذهبت الى بكركي على موعد فاستقبلني المرحوم البطريرك صفير وبعد تصفحه الكتاب صفحة صفحة سألني: "مبين إنك برمت لبنان كلوّ شو العبرة الأخدتها؟".

جوابي حينها والذي لم يتغيّر اليوم، كان: "كنيستنا أخطأت بالسماح للمدارس المسيحية تعليم ثقافات الغرب والعرب عوضاً عن ثقافتنا المارونية التي لا يجب أن يكون لنا بعدها انتماء للغرب أو للشرق تحت مسمّى الانفتاح، إنما أولادنا عليهم التعرف على وادي قنوبين وما قبلها وما بعدها كمحور أساسي للثقافة والهويّة. لكن النتيجة أتت بأن الموارنة خسروا ثقافتهم وبالتالي إيمانهم الصحيح على حساب هذا الانفتاح الذي أدى الى هويّة هجينة"

فتكاثَرَ الثعالب والخونة وقلّ عدد الأسود.

اذا كان الانسان يصبح ما فطر عليه، اذاً أين الدور الأساسي في نشر النور؟

لا عجب من كثرة الأبرشيات حول العالم، وهي طبعاً تأتي نتيجة الهجرة (التهجير الطوعي). لكن العجب هو عدم معالجة المشكلة في المصدر، والعجب الثاني عقلية المرسلين العفنة التي يكررون الجهل الذي فطروا عليه في الوطن الأم، وهم يتفرجون على تفكك العائلات المارونية وضياع أبناء الطائفة في مستنقع شيطاني لا يشبه بشيء تعاليم الانجيل! لكن حدود النجاح هو تجميع كومة توابع لترتكز الجيبة عليهن. أليس الأجدى بهؤلاء العمل الدؤوب على ربط المهاجر بلبنان بهدف العودة؟ أم أن مصالح الظلمة هي الهدف لا سمح الله؟

أليس بالأجدى أن ترسلوا هؤلاء خلف الخروف الضال لتعيدونه الى الوطن بعد أن تحسنوا الإختيار طبعاً؟

أليس بالأجدى العمل من أجل كرامة الناس في الوطن ليعود اليه من خرج منه؟ كيف يمكن الرهان الدائم والمستمر على سكان القصور عوض عن الاتكال على القدرة الهية ونشر النور والعمل للحق؟ هل الشيطان يعرف الحق ويعمل له؟ هل من أظلم كيانه يمكنه نشر النور؟

المشكلة هي في الصميم وليست في الظاهر. أما الثورة المرجوة هي الثورة على الذاة لنبذها لتكون طريق الملكوت مفتوحة، فتتبدل أولويات الأرضيين وتتحول أعمالهم خيراً عليهم وعلى وطنهم.

سيدي البطريرك أنت أمين على الكتاب المقدس وأنت القوي بقوة كلمة الله، لماذا نصرّ دائماً على النهج ذاته؟

ربنا قال في متى 7:

16 مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟

17 هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَارًا رَدِيَّةً،

18 لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا جَيِّدَةً.

19 كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ.

20 فَإِذًا مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.

اليوم هو ككل يوم من حياتنا. نشهد للحق ونعمل لمجد الرب وليس لمجدنا لأن مجده دائم ويشارك هذا المجد مع من اختار المسيح. أما مجدنا فبائس وزائل وقاتل.

لم يهادن ربنا الشرّ ولم يتصالح معه. لم يكن سياسياً ولا ديبلوماسياً، لا بل دعانا الى أن نختار بوضوح:

"37 بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ." متى 5

لا خلاص بغير المخلص ولا رجاء بغيره.

أيها الموارنة، الآن كل واحد منّا مدعو للولادة الجديدة الحقة، لأنه بغيرها لا خلاص على الأرض ولا في السماء.

كل انسان ينتظر من انسان آخر أن يخلصه، يكون انساناً ضالاً ومصيره الموت المحتم تماماً كمصير من يعتقده مخلصاً غير يسوع المسيح.

كيف نريد وطننا لبنان أن يكون؟ وكيف نعمل لتحقيق ذلك؟ أسئلة برهن من له عقل وايمان.

أما أنت الذي وصلت الى هذه الجملة أقول لك: لا تغيير يبدأ من خارجك، ولا تغيير ممكن دون الروح القدس.

الفرد بارود

bottom of page